gbha جبهة انقاذ الوطن العربى: من مخاطر انفصال جنوب السودان

من مخاطر انفصال جنوب السودان





مجدي داود



تجدد الاشتباكات بولاية النيل الأزرق وإقليم جنوب كردفان بين الجيشِ السُّوداني ومتمردي الحركة الشعبية لتحرير السُّودان/ قطاع الشَّمال، وأسفر عن ذلك مقتل العشرات وفرار الآلاف إلى إثيوبيا، وتقديم السُّودان شكوى في الأممِ المتحدة ضد جنوبِ السُّودان يتهمها فيها بدعمِ المتمردين في جنوب كردفان، وما تلا ذلك من أحداثٍ دموية - أثار تساؤلاتٍ عديدة عن مخاطرِ انفصال جنوب السُّودان، وجدوى الاتفاقياتِ الموقعة بين السُّودان وجنوب السُّودان.

لقد أُجري الاستفتاءُ على انفصالِ جنوب السُّودان في يناير الماضي، وأُعلنت النتيجةُ - بينما كانت الشعوبُ العربية والإسلامية مُنشغلةً بمتابَعة أحداث الثورة المصريَّة - فكانت هي موافقة أغلبية كاسحة من جماهيرِ جنوب السُّودان على الانفصالِ وإقامة دولة لهم، تلك الدولة التي لاقت اعترافًا حتى مِن قبْل أن يتمَّ إعلانُ قيامها رسميًّا، وفور إعلان قيامها اعترفت بها دولٌ عديدة على رأسِها مصر ودولة السُّودان، وكذلك الكيانُ الصهيوني اللقيط.

قامت دولةُ جنوب السُّودان على غفلةٍ من العرب، وللأسف لم يبدأ الربيع العربي إلا بعد أن حُسمَ أمرُ انفصال جنوب السُّودان، ويظنُّ الكثيرون أنه بقيامِ هذه الدولة وتحقيق إرادة الجنوبيين، فإنَّ هذا يعني انتهاء المشاكل بين الشَّمال والجنوب، بل انتهاء كل المشاكل التي كانت قائمة، لكن في الحقيقة فإنَّ انفصالَ الجنوبِ هو بداية عهد جديد من المشاكلِ والاضطرابات في المنطقةِ بأكملِها، ولسوف يدفع السُّودانُ ودولٌ أخرى - وعلى رأسها مصر - ثمنًا باهظًا لهذا الانفصال، ولسوف تُظهِرُ الأيامُ القادمة صحةَ هذا القول، ولعلَّ الأحداث الأخيرة تثبت صحةَ هذا القول، فليس هذا تكهنًا، بل هو كلامٌ يستند إلى أدلةٍ وحقائق ينساها أو يتناساها البعضُ منا، في محاولةٍ لوضع الرأسِ في الرمال كالنعام، لكن ليس بهذا التصرف تنتهي المشكلة، بل علينا أن نضعَ كلَّ الأمور والحقائق والاحتمالات نصْبَ أعيننا، حتى نستطيع أن نتغلَّبَ على المشاكل ولا نقع فيها.

إنَّ من أُولى المشاكلِ التي ستواجه جنوب السُّودان مع شمالِه هي مشكلة ترسيم الحدود، فلقد تم إعلانُ إقامة الدولة، ولكن لم يتم ترسيم الحدود حتى اللحظة، وهذه مفارقةٌ عجيبة، ولم يتم إنهاء النِّزاعِ حول المناطق المتنازَعِ عليها، وفي الفترة بين الاستفتاء وإعلان قيام الدولة حدثت اشتباكاتٌ عسكرية وصلت لحد الحروبِ، وراح ضحيتها نحو ألفي مواطنٍ سوداني، ومن شأن هذه المشكلةِ أن تتفاقمَ في الفترة القادمة، خصوصًا أن من ضمن المناطق المتنازع عليها هو إقليم أبيي السُّوداني الغني بالنفط، والذي هدَّدَ الرئيس السُّوداني عمر البشير أنه قد تنشبُ الحرب من جديدٍ إذا أصرَّ الجنوب على ضمِّ هذا الإقليم إليه، بالإضافة إلى منطقة جنوب إقليم كردوفان شرق السُّودان، التي تقعُ على مسافةٍ قريبة مِنْ دولةِ الجنوب، والتي توقَّعَ الخبراءُ أن تشهدَ اشتباكاتٍ بين الجيش السُّوداني وعناصر الحركة الشعبية لتحريرِ السُّودان قطاع الشَّمال المتواجدين هناك ويبلغ عددهم نحو 1800 شخص.

أضِف إلى ذلك البنيةَ الأساسية التي تخصُّ قطاعَ البترول والموجودة في الجنوب، فهذه تخصُّ دولة السُّودان، فكيف سيتمُّ التصرُّف حيالها، علاوة على المشاكلِ الاقتصادية الأخرى مثل مشكلةِ ديون السُّودان الخارجية، والتي تجاوزت الـ 35 مليارَ دولار، ومشاكل اجتماعية أخرى تتعلَّقُ بحقوقِ الشَّماليين في الجنوب، وحقوق الجنوبيين في الشَّمال الذين يُقدَّرون بمليوني نسمة في ظلِّ علاقات متداخلة منذ مئات السنين، وهي من أصعبِ المشاكل التي ستحدث، وكل هذه عبارة عن قنابل موقوتة، وفي حال انفجارِها فالمصائب ستتوالى، وسيكون الوضعُ في غايةِ السوء.

إنه من الغريبِ أن تمرَّ ستة أعوام على اتفاقيةِ "نيفاشا"، والتي أدَّتْ إلى تقاسمِ السلطة، وأعطت للجنوبيين حقَّ تقرير المصير، إلا أنه لم يتم الفصلُ في الأمورِ التي من شأنها أن تشعلَ نارَ الحرب من جديد، ولا أجد تفسيرًا لهذا.

أمَّا عن المشاكلِ الدَّاخلية لدولة جنوب السُّودان الوليدة، فيكمن أولها في التنوعِ القبلي الموجود بالجنوبِ، ووجود مشاكل إثنية بين الجنوبيين وبعضهم البعض، هذه المشاكلُ قد تحدث صراعاتٍ بين القوى المسلحة، وأقواها هو الجيش الشعبي لتحريرِ جنوب السُّودان، الذي صار جيشَ جنوبِ السُّودان رسميًّا، علاوة على الفسادِ المنتشر بين قادةِ الحركة الشعبية المسيطرة على مقاليدِ الحكم في جنوب السُّودان، والذي أدى إلى استدعاء البرلمان الجنوبي لبعضِ المسؤولين لاستجوابِهم فيما نُسبَ إليهم من قضايا فساد.

كما يخشى الخبراءُ من تمسُّكِ الحركة الشعبية لجنوب السُّودان بالسُّلطةِ وتعطيلها لحركةِ الديمقراطية وتداول السلطة في الجنوب، وهو ما يعني دفع البلاد إلى أتون حربٍ أهلية يزيدُ من الصُّعوباتِ التي تواجه الدولةَ الوليدة.

ويضاف إلى المشاكلِ التي تنتظرُ الدولةَ الوليدة مشكلةُ علاقة مسلمي الجنوب بالدولة، فكيف ستتعاملُ الدولة مع المسلمين؟! وما هو هامشُ الحريةِ الذي سيحصل عليه المسلمون؟ وهل سيُتاحُ لهم إمكانية التمثيل السياسي وتشكيل أحزاب؟ وماذا عن التيار الإسلامي في الجنوب، وخصوصًا الحركة الإسلامية والتيار الصوفي الواسع الانتشار بين المسلمين، فهل سيدفعُ المسلمون وفى القلبِ منهم التيار الإسلامي ثمنًا للانفصالِ عن الشَّمال؟! أم أن هناك إمكانيةً للتعايشِ السِّلْمي مع أهلِ الجنوب؟! هذا ما سيتضحُ خلال الفترة القادمة.

كما تواجه الدولةُ الوليدة مشكلةً أخرى خطيرة؛ وهي أنَّ دولةَ جنوب السُّودان ليس لها منفذٌ على العالم، فهي تحيط بها اليابسةُ من جميع الجهات، وبالتالي فعليها أن تلجأَ إلى إحدى الدولِ المجاورة المطِلَّة على البحارِ والمحيطات، فقد تلجأ إلى الشَّمالِ، وهذا مستبعدٌ، وقد تلجأ إلى الجنوب، فما هو المقابل الذي سيكون على هذه الدولةِ الوليدة أن تقدمَه في مقابلِ أن تطلَّ على العالم من خلال أي دولةٍ مجاورة؟

إنَّ دولةَ جنوب السُّودان ستكون دولة ضعيفة على كافة المستويات؛ فهي ضعيفة اقتصاديًّا مهما قُدِّم لها من معوناتٍ، فالمواردُ الطبيعية بخلافِ البترول قليلة، وهي مثلها مثل بقية الدول الإفريقية المحيطة، يتفشَّى فيها الجهلُ والفقر والأمراض.

ومن أهمِّ التداعيات الخطيرة لهذا الانفصالِ على دولة الشَّمال أنها خسرتْ ثلثَ مساحتِها تقريبًا، وثلث قدراتها ومواردها من المراعي والأراضي والغابات، وأهم مصادرها من البترولِ؛ حيث تسيطرُ دولةُ الجنوب على حوالي 75% من مصادرِ البترول، كما أنَّ انفصال جنوب السُّودان قد يشجعُ متمردي دارفور وشرق السُّودان على المزيدِ من التمرد، بهدف السَّيْر على نفسِ الطَّريق الذي سار عليه جنوبُ السُّودان، إلى أن يتمَّ الانفصال، خاصة إذا قام الجنوبُ بتقديم الدَّعمِ إلى هؤلاء المتمرِّدين.

ومن أهمِّ المشاكل والتداعيات الخطيرة لهذا الانفصال هو التأثير على حصَّةِ مصر والسُّودان من مياه نهر النيل، خاصة في ظلِّ مطالبة دول حوض النيل بتعديلِ الاتفاقية التي تقسمُ مياه النيل، فالدولةُ الجديدة ستطالِبُ بلا شكٍّ بحصة كبيرة من مياه النيل، ودولة الجنوب تسيطرُ على قرابة 90% من الواردِ المائي إلى مصر والسُّودان، وهناك إمكانياتٌ لإقامةِ سدود هناك لطبيعةِ الأرض السَّهلية، بعكس الوضعِ في إثيوبيا، حتى وإن لم تكن في حاجةٍ إلى تخزينِ المياه؛ حيث إنها تعتمدُ على الأمطارِ في الزِّراعة، فإنها قد تقيمُ سدودًا بدعمٍ من بعضِ الدول، وبخاصة الكيان الصهيوني، فقط من أجلِ إحكام السَّيْطرة على مصر، وخلق مشاكلَ دائمةٍ لها.

أمَّا عَلاقةُ جنوب السُّودان بالكيان الصهيوني، فستكون على رأسِ المشاكل التي تنتظر الدولَ العربية وبخاصة مصر والسُّودان، فالكيانُ الصهيوني ينظرُ إلى جنوبِ السُّودان على أنه حليفٌ إستراتيجي، فيقول المحرِّرُ "تسيفي بارئيل" في صحيفة هآرتس: "إنَّ العَلاقةَ الإسرائيلية السُّودانية بدأت من عام 1967، عندما رفضَ الجنرال "جوزيف أونجا" مؤسِّسُ حركةِ التمرد الجنوب سودانية مشاركةَ جيشِه في الحربِ ضدَّ إسرائيل، وكان الردُّ على هذه الخدمةِ الجليلة دعوة "جولدا مائير" له لزيارةِ إسرائيل، وتنظيم تدريب عسكري خاص له في جيشِ الدِّفاع الإسرائيلي، هذه الأطماعُ زادت واتضحت بعد الإعلانِ عن وجودِ اليورانيوم"، أمَّا مجلة "معرخوت" العسكرية فقد قدَّرتْ مجموعَ ما قدمته إسرائيل لجيشِ تحرير الجنوب بـ500 مليون دولار، تحملت الولاياتُ المتحدة الجزءَ الأكبر منها، وقد برز هذا الاهتمامُ الصهيوني بدولةِ الجنوب بالتغطيةِ الإعلامية لفعاليات الاستفتاءِ وإعلان الدولة الجديدة، وكذلك من خلالِ الكمِّ الهائل من الدِّراساتِ والتقارير الصهيونية حول انفصالِ الجنوب، والذي بدا فيه الكيانُ الصهيوني مرتاحًا لهذا الانفصال، وتعد الورقةُ البحثية التي قدَّمها "تسيفي مزائيل" - والذي عمل سفيرًا سابقًا للكيانِ الصهيوني لدي القاهرة - أبرزَ وأهمَّ الورقاتِ البحثية التي عكست أبعاد الرؤية الإستراتيجية الصهيونية لدولة جنوب السُّودان.

إنه مما لا شكَّ فيه أنَّ الكيان الصهيوني سيعمدُ إلى دعمِ دولة جنوب السُّودان، من أجل جعلها رأسَ حربة ضدَّ كلٍّ من مصر والسُّودان، وسببًا من أسبابِ القلاقل والمشاكل التي تحدثُ للبلدَيْن في الفترةِ القادمة، خاصة بعد سقوطِ حسني مبارك، والكيان الصهيوني لن يضيعَ فرصةً مثل هذه لإغراقِ مصر في مشاكلَ لا حصر لها، حتى يستطيع أن يسيرَ بخطًى متسارعة في مخططاتِه لتهويدِ القدس، وتهجيرِ بقية الفلسطينيين من أرضِهم، والقضاءِ على المقاومةِ الفلسطينية، والاعتداء على بعضِ الدول العربية، وربما شنَّ حربًا جديدة على مصر، وإقامة دولته المزعومة من النِّيلِ للفُرات.

كما أنَّ دولةَ الجنوب هي بمثابة الكيان الصِّهيوني الثاني، نجح الغربُ في زرعِه في جنوب السُّودان، كما نجح سابقًا في زرعِ الكيان الصهيوني في فلسطين، لتكون شوكة في ظهر مصر والسُّودان، فاللغةُ الرسميَّة لدولةِ الجنوب هي الإنجليزية، وهي دولةٌ علمانية تفصلُ الدِّينَ عن الحياة، وهكذا ستكون قطعة من الغرب، وبمعنى آخر ستكون موطئ قدمٍ لكلِّ القوى التي تعادي الإسلام وتحاربه ليل نهار تحت مسمياتٍ شتَّى، بل لا عجبَ أن يكون جنوبُ السُّودان منافسًا إقليميًّا قويًّا للكيانِ الصهيوني في خدمةِ مصالح الغرب؛ حيث ستنطلقُ منه عمليةُ الغزوِ والتخريب والتنصير لكلِّ جيران السُّودان، خاصة شماله.

كل هذه الأمورِ ترجحُ اندلاعَ صراع مسلح جديد في المنطقة، ولقد ظهرت بوادرُ هذا الصراع بين السُّودان وجنوب السُّودان، ومن المرجَّحِ أن تتصاعدَ هذه الاشتباكاتُ في الفترةِ المقبلة.

كما أنَّ فصلَ جنوب السُّودان له انعكاسات كبيرة وخطيرة على إفريقيا برمتها، وخصوصًا غرب القارة، فهناك مخاوفُ من تقسيمِ نيجيريا، ذلك البلد الأكبر من حيث عدد السُّكَّان في إفريقيا، والذي يعاني بين فترةٍ وأخرى من صراعاتٍ ومواجهات دموية بين مسلميه في الشَّمال ومسيحييه في الجنوبِ الغني بالنفط، وكذلك في ساحل العاج؛ فالأزمةُ السياسية الأخيرة أثارت مخاوفَ جديدة من تجدُّدِ الحربِ الأهلية بين مسلمي الشَّمال ومسيحيي الجنوب، وربما يكون التقسيمُ حلاًّ مناسبًا على المدى البعيد.

تلك بعضُ المشاكلِ المتوقع حدوثها بعد انفصالِ جنوب السُّودان، وبهذا يكونُ هذا الانفصال خطرًا على عددٍ كبير من الدولِ، بل خطرًا على المنطقةِ كلِّها، ولهذا فإنَّ الخبَراء يتوقعون أن يكون انفصالُ جنوب السُّودان يعني إضافة دولة جديدة فاشلة إلى الدولِ الإفريقية المحيطة بها، والتي لن تعترفَ بأنَّ الفشلَ نابعٌ من تشرذمِها وتفرقها، لكنَّها ستحاولُ أن تلقي باللومِ على دول أخرى، وبخاصة مصر والسُّودان!
جبهة انقاذ الوطن العربى

0 التعليقات

ضع تعليق

Copyright 2010 جبهة انقاذ الوطن العربى Designed by الجبهه